لتاريخ ما هو إلا حكاية، ذات مكان وشخصيات وعقدة وحل، ودرس ربما علينا أن نتعلمه حتى لا نكرر أخطاء الماضي. ومنذ تحول البشر من الترحال والصيد إلى الاستقرار والزراعة، وأنشأوا مجتمعات أكثر تعقيدا، بدأت الحروب في الظهور لحسم النزاعات حول الأراضي والموارد. ومنذ ذلك الحين، ولا يبدو أن ويلات الحروب، الموت والدمار والألم، قد غيرت شيئا في الوعي الجمعي للبشر، أو دفعتهم لتبني السلام حلّا للصراعات.
ما الحرب؟ لماذا الحرب؟
بوصفك شابّا عربيا يعيش في القرن الحادي والعشرين، بالتأكيد قرأت عن حروب قامت على نطاقات واسعة، أشهرها بالطبع الحربان العالميتان الأولى والثانية، واللتان غيّرتا وجه العالم للأبد، وعلى نطاق أضيق قليلا حرب أكتوبر، وحرب الخليج على سبيل المثال. من المرجح كذلك أنك عاينت بنفسك الغزو الأميركي للعراق، وبالتأكيد ما زلت تتابع الكفاح الفلسطيني ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، القائم منذ أكثر من 70 عاما، ولعلك لامست آثار الحروب في سوريا واليمن أو شهدتها بنفسك، وأخيرا أنت تتابع اليوم تلك الحرب الروسية ضد أوكرانيا والتي بدأت آثارها بالفعل تمس المواطن العربي.
الحرب بمعناها المتداول هي صراع طويل وعنيف، وعلى مستوى كبير، بين مجموعات سياسية متعارضة. يميل الكتّاب السياسيون إلى حصر مصطلح الحرب في الصراعات التي تنشأ بين قوتين متكافئتين في القوة والعدة والعتاد، ما يجعل المُحصّلة النهائية للحرب صعبة التوقع. بينما الحروب غير المتكافئة بين قوة غاشمة ومجموعة منعزلة غير مسلحة تحمل مسميات أخرى عديدة، مثل “الحملات العسكرية” أو “الاستكشافات”. وفي حالة الصراعات داخل المجموعة الواحدة، يُطلَق على الصراع “تمرد” أو “عصيان”. في السيناريو الأخير، لو امتلكت المقاومة القوة الكافية، فقد يتطور الأمر إلى حرب أهلية حقيقية (1).
لكن حتى قبل ظهور كل تلك الاصطلاحات، وقبل ظهور الحرب بمعناها الحديث، كانت الحرب جزءا من تراثنا البشري. خلال العصر الحجري القديم (Paleolithic age)، كان أشباه البشر من جنس الإنسان المنتصب (Homo erectus) يعيشون في جماعات صغيرة، ويحصلون على الطعام بالجمع والصيد. لم تكن هذه البيئة مثالية لنشوب صراعات على الموارد، لذا لم يُوجد حتى الآن أدلة أحفورية على تقاتل هذه الشعوب حول الموارد، بل ربما هاجر الإنسان المنتصب من أفريقيا نحو أوروبا في ذلك الوقت مدفوعا بالرغبة في تجنب الصراعات من الأساس.
لم يتغير الوضع مباشرة بظهور الإنسان العاقل (Homo sapien) قبل أكثر من 300 ألف عام، ولكن التغيير حدث في وقت متأخر نسبيا من عمر البشرية. عندما اكتُشفت الزراعة قبل حوالي 12 ألف عام، بدأ الإنسان يستقر بعد آلاف السنين من حياة الترحال والجمع والصيد، يأكل مما يزرع، ويربي الماشية ليحصل منها على اللحوم والألبان والجلود. هذا الاستقرار أدى إلى تكوين الجماعات والسيطرة على الأراضي ومصادر الغذاء، ومن ثم بدأت الصراعات حول الموارد والرغبة في الاستحواذ على الأراضي الأكثر خصوبة ووفرة في الغذاء.
لكل شيء مرة أولى
وللمفارقة، فإن أول حرب قبل التاريخ المسجل حدثت في منطقة تقع ضمن حدود العالم العربي اليوم، وجرى التعرف عليها من خلال الحفريات التي وُجدت في منطقة “جبل الصحابة” الواقعة على حدود السودان الشمالية مع مصر. هذا الموقع الآن غارق تحت بحيرة ناصر الصناعية، واكتشفه عالم الآثار الأميركي “فريد ويندورف” عام 1964. في أحدث تحليل للهياكل العظمية الـ61 التي عُثر عليها في الموقع، وُجد أنه من المرجح أن المنطقة لم تشهد فقط أول حرب حقيقية في تاريخ البشر، ولكنها كانت أيضا منطقة صراعات عنيفة متكررة.
استُدل على ذلك من خلال الجروح العديدة في العظام، والتي كان بعضها حديثا (قبل الموت مباشرة)، وبعضها أقل حداثة (كسور وجروح سابقة شُفيت بالفعل). من المرجح أن تكون هذه المعارك المتتالية نتاج تغييرات مناخية وبيئية حدثت في تلك المنطقة في نهاية العصر الحجري القديم، منذ حوالي 13 ألف عام (2).
سبق هذه الحرب بعض المناوشات على نطاق أصغر، شاهدناها عبر الرسومات الجدارية البدائية على جدران الكهوف التي تركتها الحضارات “الأورينياسية (Aurignacian)” و”البيريغوردية (Périgordian)” التي احتلت غرب أوروبا قبل 30 ألف عام. تمثل الرسومات أناسا تخترق السهام أجسادهم، وإن كان من غير المؤكد تماما إن كانت هذه دلالة على نشوب الصراعات أم أنها نوع من العقاب أو طقوس التضحية (3)(4).
حفرة موت وقبر جماعي
أما في العصر الحجري الحديث، فكانت الأمور أوضح قليلا. عُثر على عدة مواقع في أوروبا تشي بحدوث حوادث عنف جماعي مميت استهدفت ثقافة الفخار الخطّي (Linear pottery culture) التي استوطنت وسط أوروبا في الفترة ما بين 5500-4500 قبل الميلاد، وسُميت تلك الثقافة بهذا الاسم بفضل تقنيتهم الخاصة في حفر الخطوط على الفخار.
تعليقات
إرسال تعليق