كشف تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تورّط القوات الأمريكية بارتكاب مجزرة قرب دير الزور، راح ضحيتها عشرات المدنيين وذلك في غارات شنتها عام 2019 على آخر معقل لتنظيم داعش بمنطقة الباغوز، ثم محاولة القيادة العسكرية الأمريكية التكتم على تلك الجريمة وإخفاء معالمها.
وقالت الصحيفة في تحقيقها الذي ترجمته أورينت نت، إنه في الأيام الأخيرة من المعركة ضد تنظيم داعش في سوريا، عندما حوصر أعضاء من التنظيم في حقل ترابي بجوار بلدة تسمى الباغوز، حلّقت طائرة بدون طيار عسكرية أمريكية في سماء المنطقة بحثاً عن أهداف عسكرية، لكنها لم تشهد سوى حشد كبير من النساء والأطفال متجمّعين على ضفة النهر.
ودون سابق إنذار، حلقت طائرة هجومية أمريكية من طراز F-15E عبر مجال الرؤية عالي الدقة للطائرة بدون طيار وأسقطت قنبلة تزن 500 رطل على الحشد، ما خلّف انفجاراً مروّعاً، ومع تلاشي الدخان هُرِع عدد قليل من الناجين للبحث عن مكان يختبئون فيه من الغارات، إلا أن طائرة ألقت بقنبلة تزن 2000 رطل، ثم قنبلة مشابهة أخرى، ما أسفر عن مقتل معظم من نجا من الغارة الأولى.
كان ذلك في 18 آذار 2019. في مركز العمليات الجوية المشتركة المزدحم التابع للجيش الأمريكي في قاعدة العديد الجوية في قطر، كان أفراد يرتدون الزي العسكري يشاهدون بحالة من الذهول لقطات حية للطائرات بدون طيار، وفقاً لضابط كان هناك.
“من أسقط ذلك؟” مراقب مرتبك كتب على نظام دردشة آمن يستخدمه أولئك الذين يتولَّون مهمة متابعة الطائرة بدون طيار، تم استدعاء شخصين قاما بمراجعة سجل الدردشة، وردّ آخر: “لقد أسقطنا للتو 50 امرأة وطفلاً”.
سرعان ما وجد تقييم أولي لأضرار المعركة أن عدد القتلى كان في الواقع حوالي 70، فقد كانت الغارة واحدة من أكبر حوادث قتل المدنيين في الحرب ضد تنظيم داعش، لكن لم يعترف بها الجيش الأمريكي علناً. تُظهِر التفاصيل، التي تم الإبلاغ عنها هنا لأول مرة، أن عدد القتلى كان واضحاً على الفور تقريباً للمسؤولين العسكريين، فيما وصف ضابط ذو خلفية قانونية الغارة بأنها جريمة حرب محتملة تتطلب إجراء تحقيق.
لكن مع كل خطوة لكشف الحقيقة تقريباً، قام الجيش الأمريكي بإجراءات أخفت نتائج الضربة الكارثية، بما في ذلك التقليل من عدد القتلى وتأخير التقارير وإعادة دراستها، ثم تصنيفها كسرّية، فيما قامت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتجريف موقع الانفجار دون أن يتم إخطار كبار القادة.
بدأ المفتش العام المستقل بوزارة الدفاع تحقيقاً، لكن التقرير الذي يحتوي على نتائج تم تعطيله وتجريده من أي إشارة إلى الضربة.
جين تيت، الذي تولى مهمة تقييم القضية لصالح مكتب المفتش العام ووافق على مناقشة الجوانب التي لم يتم تصنيفها كسرية، قال إن “القيادة تبدو وكأنها عازمة على دفن هذه القضية.. لا أحد يريد أي شيء له علاقة بذلك، وهو ما يجعلك تفقد الثقة في النظام عندما يحاول الناس فعل الصواب ولكن لا أحد في مناصب القيادة يريد سماع الحقيقة”.
تيت، وهو ضابط سابق في البحرية عمل لسنوات كمحلل بيانات مدني مع وكالة استخبارات الدفاع والمركز الوطني لمكافحة الإرهاب قبل الانتقال إلى مكتب المفتش العام، قال السيد إنه انتقد عدم اتخاذ أي إجراء وتم إجباره في النهاية على ترك وظيفته.
جمعت صحيفة نيويورك تايمز تفاصيل الضربات على مدى شهور من وثائق سرّية وأوصاف لتقارير سرّية، بالإضافة إلى مقابلات مع أفراد متورّطين بشكل مباشر، ومسؤولين لديهم تصاريح أمنية سرّية للغاية ناقشوا الحادث بشرط عدم ذكر أسمائهم.
ووجد تحقيق التايمز أن القصف تم استدعاؤه من قبل وحدة العمليات الخاصة الأمريكية السرية، المعروفة باسم “قوة المهام 9″، التي كانت مسؤولة عن العمليات البرية في سوريا.
عملت تلك الوحدة في سرية تامة لدرجة أنها في بعض الأحيان لم تبلغ حتى شركاءها العسكريين عن أفعالها، وقال ضابط خدم في مركز القيادة إنه في حالة تفجير الباغوز، لم يكن لدى قيادة القوات الجوية الأمريكية في قطر أي فكرة عن أن الضربة قادمة.
في الدقائق التي أعقبت الضربة، استدعى ضابط مخابرات بسـ.ـلاح الجو في مركز العمليات محاميَ القوات الجوية المسؤول عن تحديد مشروعية الضربات، وقد أمر المحامي سرب الطائرات وطاقم الطائرة بدون طيار بالحفاظ على جميع مقاطع الفيديو والأدلة الأخرى، وفقاً للوثائق التي حصلت عليها الصحيفة.
كما صعد المحامي إلى الطابق العلوي وأبلغ التسلسل القيادي بأن الضربة تمثّل انتهـ.ـاكاً محتملاً لقانون النزاع المسلح “جريمة حرب”، وأن اللوائح تتطلب تحقيقاً شاملاً ومستقلاً، لكن لم يتم إجراء تحقيق شامل ومستقل.
هذا الأسبوع، بعد أن أرسلت صحيفة نيويورك تايمز النتائج التي توصلت إليها إلى القيادة المركزية الأمريكية، التي أشرفت على الحرب الجوية في سوريا، أقرّت القيادة بالضربات لأول مرة، قائلة إن 80 شخصاً قُتِلوا لكن الضربات الجوية كانت مبرَّرة.
وأضافت أن القنابل قتلت 16 مقاتلاً وأربعة مدنيين. أما بالنسبة للقتلى الستين الآخرين، فقال البيان إنه لم يتضح أنهم مدنيون، مبرراً ذلك بالقول إن النساء والأطفال في تنظيم داعش حملوا السلاح في بعض الأحيان.
وقال النقيب بيل أوربان، المتحدث الرئيسي باسم القيادة، في البيان: “إننا نبغض فقدان أرواح الأبرياء ونتخذ جميع الإجراءات الممكنة لمنع حدوث ذلك.. في تلك الحادثة، أبلغنا ذاتياً عن الغارة وحققنا فيها وفقاً لأدلتنا ونتحمل المسؤولية الكاملة عن الخسائر غير المقصودة في الأرواح”.
التقييم الوحيد الذي تم بعد الضربة مباشرة أجرته نفس الوحدة البرية التي أمرت بالغارة. وقالت القيادة إنها قررت أن القصف كان قانونياً لأنه قتل عدداً قليلاً فقط من المدنيين أثناء استهداف مقاتلي داعش في محاولة لحماية قوات التحالف، ولذلك لم يكن هناك ما يبرر إخطاراً رسمياً بجرائم حرب أو تحقيق جنائي أو إجراء تأديبي، مضيفة أن الوفيات الأخرى كانت “عرَضية”.
لكنَّ محاميَ سلاح الجو، المقدَّم دين دبليو كورساك، يعتقد أنه شهد جـ.ـرائم حر.ب محتملة وضغط مراراً على قيادته والمحققين الجنائيين في القوات الجوية للتحرك، وعندما لم يفعلوا ذلك، نبّه المفتشَ العام المستقل لوزارة الدفاع. بعد عامين من الغارة، لم يرَ أي دليل على أن وكالة المراقبة تتخذ إجراءاً، أرسل العقيد كورساك بريداً إلكترونياً إلى لجنة القوات المسـ.ـلحة بمجلس الشيوخ، وأخبر موظفيها أن لديه موادَّ سرية للغاية لمناقشتها وأضاف: “أنا أعرّض نفسي لخطر الانتقام بسبب إرسال تلك المواد”.
وقال في رسالة البريد الإلكتروني التي حصلت عليها الصحيفة إن “كبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين تحايلوا عمداً ومنهجياً على عملية الضربة المتعمدة”. وأضاف أن الكثير من المواد سرية، وستحتاج إلى مناقشتها من خلال اتصالات آمنة. وقد كتب أن إحدى الوحدات قد أدخلت عمداً بيانات زائفة في سجل الضربات بهدف التستّر على الحوادث”. ووصف حصيلة القتلى المصنفة على أنها سرية بأنها “عالية بشكل صادم” ، وقال إن الجيش لم يتبع متطلباته الخاصة للإبلاغ عن الغارة والتحقيق فيها، مشيراً إلى أن “أعلى مستويات الحكومة ظلّت غير مُدرِكة لما كان يحدث على الأرض”.
ولم يردَّ العقيد كورساك على طلبات الصحيفة للتعليق، وامتنع مكتب التحقيقات الخاصة بالقوات الجوية عن التعليق كذلك.
تشويه الحقيقة
صورت الولايات المتحدة الحرب الجوية ضد داعش على أنها أكثر حملة قصف دقيقة وإنسانية في تاريخها. قال الجيش إنه تم التحقيق في كل تقرير عن سقوط ضحايا مدنيين، ونشرت النتائج علناً، ما أوجد ما وصفه الجيش بنموذج للمساءلة، لكن الضربات على الباغوز تحكي قصة مختلفة.
تشير التفاصيل إلى أنه بينما يضع الجيش قواعد صارمة لحماية المدنيين، استخدمت فرقة العمليات الخاصة قواعد أخرى مراراً وتكراراً للالتفاف عليها، ونادراً ما كان لدى الفرق العسكرية التي تحصي الضحايا الوقت أو الموارد أو الحافز للقيام بعمل دقيق، ونادراً ما واجهت القوات المساءلة عندما تسببت في مقتل مدنيين.
حتى في حالة الباغوز الاستثنائية – التي ستحتل المرتبة الثالثة في أسوأ أحداث الخسائر المدنية للجيش في سوريا إذا تم الاعتراف بوفاة 64 مدنياً – لم يتم اتباع اللوائح الخاصة بالإبلاغ عن الجريمة المحتملة والتحقيق فيها، ولم تتم محاسبة أحد.
اعترف الجيش مؤخراً بأن ضربة فاشلة في كابل، أفغانستان، في آب أسفرت عن مقتل 10 مدنيين، بينهم سبعة أطفال. يقول المراقبون إن هذا النوع من الحساب العام غير دقيق في كثير من الأحيان، يتم التقليل من عدد الوفيات بين المدنيين حتى في التقارير السرية.
وفي المجمل، تم شن ما يقارب 1000 غارة ضد أهداف في سوريا والعراق في عام 2019، باستخدام 4729 قنبلة وصاروخاً. الحصيلة العسكرية الرسمية للقتلى المدنيين لهذا العام بأكمله هي 22 فقط، ولم يتم إدراج الغارات التي استهدفت الباغوز في 18 من آذار ضمن القائمة.
فرقة عمل سرية
مثّلت المعركة في الباغوز نهاية حملة قادتها الولايات المتحدة لقرابة خمس سنوات من أجل هزيمة داعش في سوريا، وشكلت انتصاراً للسياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب.
في ذروة حكمه عام 2014 ، سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على منطقة في سوريا والعراق بحجم ولاية تينيسي. ضرب أسطول من طائرات التحالف والطائرات النفاثة والمروحيات الهجومية والقاذفات الثقيلة مواقع العدو بنحو 35 ألف غارة على مدى السنوات الخمس المقبلة، ما مهّد الطريق أمام الميليشيات الكردية والعربية المحلية لاستعادة الأرض.
في نهاية القتال الطاحن، حشدت الضربات الجوية ما تبقى من مقاتلي داعش في قطعة أرض زراعية بالقرب من الباغوز. أجبرت القوة الجوية للتحالف الآلاف على الاستسلام، وبالتالي الحفاظ على أرواح أعداد لا تحصى من عناصر الحلفاء سواء العرب أو الأكراد.
على الأرض، نسقت ما تسمى بـ”قوة المهام 9″ الهجمات والغارات الجوية. وقال عدد من المسؤولين إن الوحدة تضم جنوداً من المجموعة الخامسة للقوات الخاصة إضافة إلى عناصر من فريق كوماندوز النخبة بالجيش المعروف بـ “دلتا فورس”.
بمرور الوقت، بدأ بعض المسؤولين المشرفين على الحملة الجوية يعتقدون أن تلك القوة كانت تتحايل بشكل منهجي على الضمانات التي تم إنشاؤها للحد من الوفيات بين المدنيين.
كان من المفترض أن تمر العملية بعدة ضوابط وتوازنات، درست الطائرات بدون طيار المزودة بكاميرات عالية الدقة الأهداف المحتملة، أحياناً لأيام أو أسابيع. دأب المحللون على دراسة البيانات الاستخباراتية للتمييز بين المقاتلين والمدنيين. وتم ضم المحامين العسكريين إلى فرق تنفيذ الغارات لضمان امتثال الاستهداف لقانون النزاعات المسلحة. في المواقف القتالية، قد تستغرق العملية دقائق فقط، ولكن حتى ذلك الحين، تطلبت القواعد من الفرق تحديد الأهداف العسكرية وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين. وفي بعض الأحيان، عندما فشلت القوة في تلبية هذه المتطلبات، رفض القادة في قطر وأماكن أخرى الإذن بالتنفيذ.
ولكن كانت هناك طريقة سريعة وسهلة لتخطي الكثير من هذا الإغفال، ألا وهي “الادعاء بوجود خطر وشيك”.
يسمح قانون النزاع المسلح – كتاب القواعد الذي يحدد السلوك القانوني للجيش في الحرب – للقوات في المواقف التي تهدد الحياة بتجنب محامي فريق الضربة والمحللين والبيروقراطية الأخرى، واستدعاء الضربات مباشرة من الطائرات بموجب ما تسمّيه اللوائح العسكرية “الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس.”
عادةً ما لعبت “القوة 9” دوراً استشارياً فقط في سوريا، وكان جنودها عادةً خلف الخطوط الأمامية. ومع ذلك ، بحلول أواخر عام 2018 ، ادعى حوالي 80 في المئة من جميع الضربات الجوية التي كانت تستدعيها بأنها “دفاع عن النفس”، وفقاً لضابط في القوات الجوية راجع الضربات.
سمحت القواعد للقوات الأمريكية والحلفاء المحليين باستحضارها ليس فقط عند التعرض لنيران العدو المباشرة، ولكن عند رصد أي شخص يحمل “نية عدائية”، وفقاً لضابط سابق انتشر مع الوحدة عدة مرات.
بموجب هذا التعريف، يمكن في بعض الحالات استهداف شيء عادي مثل سيارة تسير على بُعد أميال من القوات الصديقة، قال الضابط السابق إن “القوة 9” فسّرت القواعد بشكل فضفاض.
كانت نتائج هذا النهج واضحة للعيان. تم تحويل عدد من البلدات السورية، بما في ذلك العاصمة الإقليمية، الرقة، إلى أشبه بكتل من الأنقاض، حيث أفادت منظمات حقوق الإنسان أن التحالف تسبب في مقتل الآلاف من المدنيين خلال الحرب. فيما تظهر المئات من تقارير التقييم العسكري التي فحصتها الصحيفة أن “القوة 9” متورطة في ما يقارب واحداً من كل خمس حوادث سقط فيها ضحايا مدنيون على يد التحالف في المنطقة.
في العلن، أصرّ التحالف على أن الأرقام كانت أقل بكثير، بيد أن شخصين قاما بتجميع التقارير قالا إنه على المستوى الخاص، أصبح التحالف غارقاً في حجم دعاوى الضحايا المدنيين التي أبلغ عنها السكان المحليون والجماعات الإنسانية ووسائل الإعلام، وظلت تقارير تقييم الخسائر المدنية تتراكم دون فحص لعدة أشهر.
قال الضابط السابق في فرقة العمل، إنه حتى عند الانتهاء، لم تكن الفرق العسكرية التي أجرت تلك التقييمات مجهّزة لإجراء إحصاء دقيق، لأن الأفراد الذين يقومون بالعد لم يحققوا على الأرض، وكثيراً ما استندوا في النتائج التي توصلوا إليها إلى عدد الجثث التي تم ملاحظتها بين الأنقاض من خلال لقطات جوية للركام.
وقال السيد تيت ، الذي كتب تقريراً سرياً عن أوجه القصور في العملية، إن فرق التقييم كانت تفتقر أحياناً إلى التدريب، وبعضها لم يكن لديه تصاريح أمنية حتى لعرض الأدلة.
قال ثلاثة مسؤولين إن تقييمات الهجوم في الباغوز كانت مَعيبة أيضاً، لأنها نُفّذت على يد الوحدات التي استدعت الضربات، ما يعني أن القوة كانت هي المسؤولة عن تقييم أدائها.
إبلاغ وكالة الاستخبارات المركزية
لم تكن جماعات حقوق الإنسان هي الوحيدة التي دقت ناقوس الخطر، ولكن حتى الضباط العاملون في وكالة الاستخبارات المركزية C.I.A استشعروا القلق المتنامي من غارات “القوة 9” لدرجة أن العملاء أبلغوا المفتش العام بوزارة الدفاع عن قلقهم، الذي حقّق في الادعاءات وقدّم تقريراً بقيت نتائجه سرية.
لكن ضابط فريق العمل السابق، الذي راجع التقرير، قال إن وكالة المخابرات المركزية أفادت بأن “القوة 9” استدعت في 10 حوادث ضرباتٍ جوية مع علمهم بأن مدنيين سيُقتَلون.
قال الضابط السابق إن التقرير خلص إلى أن جميع الضربات كانت قانونية، فيما امتنع المفتش العام عن نشر التقرير أو مناقشة نتائجه.
أصبح الموظفون في مركز العمليات في قطر ، الذين أشرفوا على الحرب الجوية، قلقين أيضاً من ضربات الفرقة. بدأ محامو القوات الجوية في الاحتفاظ بجدول بيانات، وتسجيل مبررات الدفاع عن النفس التي استخدمتها “القوة 9” في استدعاء الضربات، ثم مقارنتها مع لقطات الطائرات بدون طيار وغيرها من الأدلة، وفقاً لأحد الضباط الذين اطّلعوا على البيانات. يبدو أن الأدلة تظهر أن “القوة 9” كانت تضيف تفاصيل من شأنها أن تبرر قانونياً الضربة ، مثل رؤية رجل يحمل مسدساً، حتى عندما تكون هذه التفاصيل غير ظاهرة في اللقطات.
قال الضابط إنه على الرغم من أن عدداً من الضباط في مركز العمليات اشتبهوا في أن فرقة العمل كانت تقدم معلومات مضللة في السجلات لتبرير الضربات، إلا أنهم لم يشعروا أن لديهم أدلة كافية للضغط في هذه القضية، إلا أن ذلك تغير في 18 من آذار 2019.
غارات قاتلة
كان المعسكر في الباغوز المعقل الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية، حيث تعهد فيه المتشددون بالقتال حتى الموت. ولأكثر من شهر، تحصّن التنظيم في منطقة تبلغ مساحتها نحو ميل مربع واحد من الحقول الزراعية المحترقة بوجود عشرات الآلاف من النساء والأطفال. كان البعض هناك طواعية والبعض لم يكن كذلك.
كان التحالف قد فرض حصاراً على أمل تجويع المقاتلين وفي 6 أسابيع، استسلم 29000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال. وفي 18 آذار، أظهرت لقطات مصورة بطائرة بدون طيار أن المخيم لا يزال يؤوي أعداداً كبيرة من الأشخاص المشتبه في كونهم مقاتلين وعائلاتهم.
قال الضباط إن طائرات التحالف بدون طيار جابت المخيم على مدار 24 ساعة في اليوم لأسابيع، وعرفت كل بوصة داخله تقريباً، بما في ذلك التحركات اليومية لمجموعات من النساء والأطفال الذين تجمّعوا لتناول الطعام والصلاة والنوم، بالقرب من ضفة نهر شديدة الانحدار توفر لهم الغطاء.
لكن ما حدث في صباح يوم 18 آذار أصبح محل خلاف. في ذلك اليوم، شن مقاتلو داعش المحاصرون في المخيم هجوماً مضاداً قبل الفجر، وفقاً لإدعاءات القيادة المركزية، التي أشرفت على “القوة 9″، وقالت إن المئات من مقاتلي داعش بدؤوا في إطلاق النار من البنادق وقاذفات القنابل اليدوية وإرسال مقاتلين إلى الأمام بسترات ناسفة. قصف التحالف المقاتلين بضربات جوية، لدرجة أنه بحلول منتصف الصباح، استخدم التحالف جميع الصواريخ التي تحملها طائراته بدون طيار. ولم يتبقَّ في المنطقة سوى طائرة أمريكية بدون طيار، تسيطر عليها القوة وكانت غير مسلحة.
قالت القيادة المركزية إن حوالي الساعة 10 صباحاً، أفادت القوات المحلية المساندة للتحالف بأنها تعرضت لإطلاق نار وباتت معرَّضة لخطر هجوم من داعش، ودعت إلى شن غارة جوية، فيما تتبعت طائرة بدون طيار مجموعة من المقاتلين وهم يشقّون طريقهم عبر المخيم إلى المنطقة التي يحتمي بها النساء والأطفال.
قال ضابط في المجموعة الخامسة من القوات الخاصة إنه نظر إلى لقطات الطائرة بدون طيار ولم يرَ أي مدنيين. لكن الطائرة بدون طيار التي اعتمد عليها لم يكن لديها سوى كاميرا ذات دقة ليست عالية الوضوح. وقالت القيادة المركزية إنه لا توجد طائرات بدون طيار عالية الدقة في المنطقة يمكنها الحصول على رؤية أفضل للهدف.
أعطى ضابط القوات الخاصة الأمر بإطلاق النار. وقالت القيادة إنه مع عدم وجود صواريخ دقيقة، استدعى القائد البري قنابل تزن 500 و 2000 رطل. وصُنّف سجل الضربة الجوية على أنها دفاع عن النفس.
في الواقع، تم توفير طائرة بدون طيار عالية الدقة كانت تبث لقطات من نفس الرقعة الأرضية إلى مركز العمليات في قطر لكن القوة لم تستخدمها. وقال ضابطان إن فرقة العمل كانت تعمل بمستوى عالٍ من السرية، وإن الأشخاص في قطر الذين يشاهدون الطائرة بدون طيار عالية الدقة لم يكونوا على علم بأن القوة على وشك الدعوة إلى لتنفيذ غارات.
قالت القيادة المركزية إن القوة لم تكن تعلم أن الطائرة الأفضل بدون طيار كانت تحلّق في السماء.
سجّلت الطائرة بدون طيار عالية الدقة مشهداً مختلفاً تماماً عما وصفته القيادة المركزية الأسبوع الماضي.
وفقاً لما قاله ثلاثة أشخاص شاهدوا اللقطات أن التسجيل أظهر رجلين أو ثلاثة – وليس 16 – يحملون بنادق ويتجولون بالمحيط ولا يبدو أنهم يناورون أو يشتبكون مع قوات التحالف، ولم يتصرفوا بطريقة تبرر استدعاء ضربة للدفاع عن النفس بقنابل زنة 2000 رطل. وقال شخصان اطلعا على سجل المحادثات المستخدم من مراقبين، أن اللقطات أظهرت وجود نساء وأطفال ورجلاً يحمل مسدساً، لكنه لم يذكر أي قتال نشط.
استعرض فريق التحقيقات المرئية في صحيفة التايمز مئات الصور ومقاطع الفيديو وصور الأقمار الصناعية لمعسكر داعش في الباغوز. تقع نقطة الضربة المُبلَغ عنها بين قناتين استخدمهما الفريق كنقاط علّام مرجعية لتحديد الموقع.
تظهر صورة التُقطت في اليوم السابق عدة خيام مؤقتة في المنطقة. ما لا خلاف عليه هو أنه بعد لحظات من استدعاء “القوة 9” للطائرات ، ضربت طائرة هجومية من طراز F-15E المكان بقنبلة تزن 500 رطل. بعد خمس دقائق، عندما رأت القوات البرية أشخاصاً يفرّون من موقع الانفجار، ألقت طائرة F-15E قنبلتين تزن كل منهما 2000 رطل على الناجين، استغرق الهجوم بأكمله 12 دقيقة.
التقط المصور السوري، جهاد درويش ، غارات جوية في المنطقة تطابق هذا الوصف أثناء تصويره من مرتفع صخري يطل على المخيم، تظهر اللقطات أن القوات البرية ربما لم تكن في وضع يمكّنها من رؤية مجموعة المدنيين.
تحقيق فاشل
تتطلب لوائح وزارة الدفاع الإبلاغ الفوري عن أي انتهاك “محتمل أو مشتبه به أو مزعوم” لقانون النزاع المسلح للقائد المسؤول ، فضلاً عن المحققين الجنائيين، وهيئة الأركان المشتركة، وحتى وزير الدفاع.
بعد مشاهدة اللقطات، أمر محامي القوات الجوية، العقيد كورساك ، الوحدات المعنية بالحفاظ على تسعة أدلة، بما في ذلك الفيديو، وأبلغ تسلسل قيادته بالضربة، وفقاً للرسالة الإلكترونية التي أرسلها لاحقاً إلى لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ. كما أخطر القيادة بالمخاوف بأن “القوة 9” بدت وكأنها تتستر على انتهاكات جرائم الحرب المزعومة من خلال إضافة تفاصيل إلى سجل الضربات تبرّر توجيه ضربة للدفاع عن النفس.
قال لطاقم اللجنة إن القادة لم يتخذوا أي إجراء.
اجتاحت قوات التحالف المخيم في ذلك اليوم، وأعلنت هزيمة تنظيم داعش بعد بضعة أيام. الحرب الجوية التي استمرت لأعوام تم الاحتفاء باعتبارها انتصاراً. وفي ذلك اليوم أذن قائد مركز العمليات في قطر لجميع الأفراد بتناول أربعة مشروبات من البار الموجود بالقاعدة بدلاً من 3 مشروبات.
وجد المراقبون المدنيون الذين وصلوا إلى منطقة الضربة في اليوم التالي أكواماً من القتلى من النساء والأطفال. ونشرت منظمة “الرقة تذبح بصمت” صوراً للجثث ووصفتها بـأنها “مجزرة مروعة”.
تُظهر صور الأقمار الصناعية بعد أربعة أيام أن موقع المخيم تم تجريفه رغم سيطرة التحالف عليه.
ديفيد يوبانك، جندي سابق في القوات الخاصة بالجيش الأمريكي تجول عبر المنطقة بعد حوالي أسبوع ويدير الآن منظمة Free Burma Rangers الإنسانية، قال في مقابلة: “المكان دُمّر بسبب الغارات الجوية وكان هناك الكثير من الأراضي التي جُرّفت حديثاً ورائحة الجثث النتنة تحتها الكثير من الجثث”.
خشية أن تفاصيل الغارة الجوية سيتم دفنها أيضاً، أخطر العقيد كورساك مكتب التحقيقات الخاصة التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالية بنسخة سلاح الجو.
وفي رسالة بريد إلكتروني شاركها العقيد كورساك مع لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، رد أحد كبار المسؤولين بأن موظفي المكتب ربما لن ينظروا في الأمر ، قائلاً إن المكتب عادةً ما يحقق في تقارير الخسائر المدنية فقط عندما يكون هناك “احتمال لجذب اهتمام إعلامي كبير، أو القلق من غضب المجتمع المحلي” أو الحكومة، أو “في حالة تسريب صور حساسة تثير القلق”.
ضغط العقيد كورساك مرة أخرى على سلسلة قيادته للعمل، وأبلغ كبير الضباط القانونيين في قيادته في مذكرة في أيار 2019 أن اللوائح تتطلب إجراء تحقيق. وقال لاحقاً لموظفي لجنة مجلس الشيوخ إن رؤساءه لم يفتحوا تحقيقاً.
كتب: “الموضوع والحوادث ماتت بعد وصولها للقادة حيث رفض المشرفون مناقشة الأمر معي”.
ولم يردَّ كبير المسؤولين القانونيين، الكولونيل ماثيو ب.ستوفيل، على طلبات التعليق.
أنهت فرقة العمل تقرير الخسائر المدنية في الغارة في ذلك الشهر، وقررت مقتل أربعة مدنيين. لكن بعد عامين ونصف، على الموقع الإلكتروني للجيش بسبب حملته ضدداعش، والمعروفة باسم عملية العزم الصلب، لا يزال الجيش يُدرِج القضية علناً على أنها “مفتوحة”.
دفن التقرير
غير راغب في التخلي عن القضية، قدم العقيد كورساك شكوى على الخط الساخن لمكتب المفتش العام في آب 2019.
كان فريق من أربعة أشخاص في المكتب يبحث بالفعل في أوجه القصور في عمليات الإبلاغ عن الخسائر المدنية في سوريا، وأقام بسرعة مقابلة في مكان آمن. بعد مراجعة اللقطات عالية الدقة وإجراء مقابلة مع العقيد كورساك، أخبر الفريق، الذي ضم السيد تيت، الرؤساء في مكتب المفتش العام أن الادعاء بارتكاب جريمة حرب “موثوق للغاية”.
قال السيد تيت: “عندما جاء إلينا، أراد أن يوضح تماماً أنه سلك كل الطرق الممكنة.. لقد شعر أن الخط الساخن لوزارة الدفاع كان خياره الوحيد المتبقي”.
ولكن مثل الجهود السابقة لمحامي القوات الجوية، سرعان ما وصل فريق تيت إلى عوائق على الطريق إلى الحقيقة. وقال إن القيادة المركزية كانت بطيئة في تسليم الأدلة. حصل السيد تيت على مقطع فيديو من عدة طائرات بدون طيار تحلق فوق الباغوز في ذلك اليوم، لكنه لم يتمكن من تحديد اللقطات التي استخدمتها القوة لاستدعاء الضربة.
وقالت متحدثة إن مكتب المفتش العام تلقى شكوى ثانية على الخط الساخن بشأن الضربة، لكن السيد تيت قال إن فريقه لم يتم إخباره قط.
درس السيد تيت تقرير الخسائر لفريق العمل، الذي لم يتطابق مع ما رآه في التسجيلات، مؤكداً أن الوفيات المدنية المذكورة في التقرير كانت أقل بكثير.
تم حفظ القسم الأخير من تقرير الضحايا للرأي القانوني. في نسخة واحدة من التقرير أرسلت من قبل “تيت”. كتب محامي القوة وضابط عمليات أن انتهاكاً لقانون القوات المسلحة قد يكون حدث.
ولم يجد السيد تيت أي دليل على أن هيئة الأركان المشتركة أو وزير الدفاع أو المحققين الجنائيين قد تم تنبيههم بالحادثة، على النحو المطلوب.
في غضون أيام من مقابلة العقيد كورساك ، نقل فريق السيد تيت النتائج التي توصلوا إليها للمشرفين وأخبرهم أن المكتب مطالب بتنبيه هؤلاء المسؤولين ووكالات التحقيق الجنائي.
قال السيد تيت إن المشرفين عليه لم يتخذوا أي إجراء. ضغط الفريق على القادة عدة مرات خلال الأشهر العديدة التالية، وفي كانون الثاني 2020 ، صاغ قائد فريق السيد تيت مذكرة من شأنها تنبيه السلطات رسمياً. لا يلزم إلا أن يوقَّع من قبل نائب المفتش العام المشرف على الفريق. قال السيد تيت إن المشرف لم يوقع عليها.
في الأشهر التي أعقبت عام 2020 ، أنهى الفريق تقريره حول قضايا أوسع في عملية الإبلاغ عن الخسائر المدنية، ولكن مع مروره بعملية التحرير والتصديق والتي تضمنت تعليقات من القيادة المركزية للقوات الأمريكية، تم إزالة جميع الإشارات إلى غارة الباغوز.
أصبح السيد تيت يشير بشكل متزايد في انتقاد قيادة مكتب المفتش العام. وفي تشرين الأول 2020، قال إنه أُجبر على ترك منصبه وتم طرده من المبنى من قبل الأمن.
تم إصدار تقرير المفتش العام حول الخسائر المدنية رسمياً هذا الربيع لإطلاع أعضاء الكونغرس والجيش عن الأوضاع الأمنية. رفض المكتب الكشف عن نسخة عامة أو مناقشة النتائج السرية، لكنه أقر بأنه لم يذكر الباغوز.
وشككت متحدثة باسم مكتب المفتش العام في رواية السيد تيت. قالت إنها نبهت السلطات المختصة في القيادة المركزية بعد فترة وجيزة من تلقيها أول شكوى على الخط الساخن في عام 2019. وقالت المتحدثة إن المكتب أخطر المحققين الجنائيين أيضًا بالهجوم في تشرين الأول 2020، بعد 14 شهراً من تلقي مكالمة الخط الساخن – في وقت قريب من قرار طرد السيد تيت.
وقالت متحدثة باسم المكتب إنه من المتوقع الانتهاء من تقييم جديد لالتزام قيادة العمليات الخاصة بقانون الحرب هذا الشهر، وسيشمل غارة الباغوز ولكن سيكون التقرير سرياً.
بعد مغادرة المكتب، رفض السيد تايت الاستسلام. اتصل بلجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ في أيار وأرسل رسالة من 10 صفحات يصف الغارة وما اعتبره “إخفاقاً منهجياً” في الإبلاغ عن الضحايا المدنيين. ثم اتصلت اللجنة بالعقيد كورساك الذي رد برسالة مفصلة بالبريد الإلكتروني.
عندما سألته صحيفة The Times عن الهجوم الذي وقع آذار 2019، رفض تشيب أونروه، المتحدث باسم جاك ريد، السناتور الديموقراطي عن ولاية رود آيلاند ورئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، التعليق على تفاصيل الحادث الذي أطلعت القيادة المركزية اللجنة على تفاصيله.
ومع ذلك، فقد قال بشكل فضفاض: “عندما تحدث أخطاء مأساوية في ساحة المعركة، فإن الولايات المتحدة، بصفتها زعيمة العالم الحر، عليها الالتزام بالشفافية وتحمل المسؤولية وبذل كل ما في وسعنا للتعلم منه و منع الأخطاء في المستقبل”.
انتظر السيد تيت لأشهر حتى تقوم اللجنة بالاتصال به وإعطائه إشارة إلى أنها كانت تبحث بنشاط في القضية. قال بحسرة هذا الأسبوع إنه ما زال ينتظر. اورينت
تعليقات
إرسال تعليق