لفت تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول وضع قوات الردع النووي في حالة التأهب انتباه العالم أجمع، يعرف الجميع أنه محاولة مباشرة للضغط السياسي على خصومه في الغرب، سواء أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية، لكن تبقى المشكلة أن احتمال استخدام أيٍّ من الدول المتصارعة سلاحا نوويا يظل قائما، وإن كان بعيدا.
في مرحلة ما من تاريخ الحضارة البشرية، يكون الاحتمال الضعيف جدا، إلى أبعد حد، جوهريا بسبب قدر الآثار المتوقَّعة المترتبة عليه، في كتابه “أسباب وأشخاص” الصادر سنة 1984، يسأل الفيلسوف البريطاني ديريك بارفيت قائلا: “أيها أسوأ، الانتقال من السلام إلى حـ.ـرب نووية تقتل 90% من البشر، أم الانتقال من حـ.ـرب نووية تقتل 90% من البشر إلى حرب نووية تقتل 100% من البشر؟”، قد تقول إن الحالة الأولى بالطبع أسوأ، لكن الحالة الثانية لا تعني قتل 10% من الناس فقط، بل تعني انقراض البشرية، الذي سيكون في حد ذاته أسوأ بكثير، لأنه يمنع وجود جميع الأجيال القادمة، هذا الاحتمال الأخير أقل من سابقه، لكنه أسوأ لدرجة تجعل من المهم أن نأخذه في الحسبان.
في هذا السياق، يبرز مصطلح “ساعة القيامة”(1)، وهو اصطلاح رمزي تُعبِّر عنه ساعة تُشير إلى ما قبل منتصف الليل بعدة دقائق، ابتُكرت هذه الفكرة سنة 1947 من قِبَل مجلس إدارة مجلة علماء الذرة التابعة لجامعة شيكاغو، وهي تُنذر بقُرب نهاية العالم بسبب السباق الجاري بين الدول النووية. خلال عامَيْ 2015-2020 حدَّث العلماء بيانات الساعة وحُرِّكت للأمام 100 ثانية، ما يعني وجود احتمال أكبر لكارثة نووية، أشار الباحثون إلى أنه رغم الوعي بالمخاطر النووية، فإن كل دولة تمتلك سلاحا نوويا تُحدِّث ترسانتها النووية حاليا، وبشكل متسارع.
بينما نتحدَّث الآن، يحوي العالم ما بين 15-18 ألف رأس حربي نووي، عدة آلاف منها يمكن أن تكون جاهزة للإطلاق خلال 5-15 دقيقة. وفي استطلاع للخبراء في المؤتمر العالمي للمخاطر الكارثية في جامعة أكسفورد سنة 2008، قُدِّر احتمال(2) الانقراض البشري الكامل بواسطة الأسلحة النووية بنسبة 1% خلال قرن. بالطبع تعكس هذه النتائج الآراء المتوسطة لمجموعة من الخبراء، وليست نموذجا تحليليا احتماليا قائما على عمل بحثي، لكن الاحتمال -مرة أخرى- لا يزال قائما، مهما بدا ضعيفا.
إنه يبدأ بقنبلة واحدة
حسنا، دعنا ندخل قليلا إلى ما يمكن أن يحدث في عالم الاحتمالات، لنبدأ مثلا باحتمال بسيط يقول إن روسيا أو أيًّا من دول حلف الناتو النووية بدأت بإطلاق صاروخ نووي واحد عابر للقارات، وضرب مدينة متوسطة أو ربما كبيرة بحجم القاهرة مثلا، ما الذي سيحدث في هذه الحالة؟(3) هذا احتمال شهدنا تحقُّقه من قبل في حالتَيْ هيروشيما وناغازاكي.
لو سقطت القنبلة في أحد شوارع مركز المدينة فستظهر خلال أقل من ثانية كرة من البلازما الحارة جدا (أكثر من الشمس) وتُبخِّر كل ما يوجد ضمن نطاق 2-3 كيلومترات من مركز الانفجـ.ـار، حينما نستخدم لفظ “تُبخِّر” فإننا نستخدم أدق وصف ممكن لما سيحدث، كل شيء سيتبخَّر من بشر وأشياء ومنازل وسيارات وأشجار وغيرها.
بعد ذلك، وخلال أقل من 20 ثانية لاحقة، ستنطلق موجة حارة هائلة إلى دائرة قُطرها 25-30 كيلومترا، هنا لن يتبخَّر شيء، لكن كل ما هو قابل للاحتراق سيحترق، بما في ذلك البشر والأشجار والمنازل والمواد البلاستيكية والملابس. يتضمَّن ذلك أيضا موجة صدمية قادرة على هدم معظم المنازل في المنطقة، أثر تلك الموجة سيكون أكبر من المرور خلال إعصار هائل من الدرجة الخامسة.
قد يصل عدد القتلـ.ـى في هذه الضربة إلى 500 ألف شخص، مع ضِعْف هذا العدد من المصابين الذين لن يُسعَفوا لأن البنية التحتية دُمِّرت، لكن هذا ليس كل شيء، لم نتحدَّث بعد عن التلوث الإشعاعي الذي سيمتد لنطاق عدة كيلومترات إضافية بعد الدائرة السابقة قاتلا من 50-90% من السكان خلال الساعات إلى الأيام التالية، مع ارتفاع احتمالات الإصابة بأنواع متفرقة من السرطان في الأجيال التالية لمَن تبقوا.
يلي ذلك انتشار واسع لما يُسمى بالغبار النووي(4)، وهو الرماد المُشع المتبقي الذي دُفع به إلى الغلاف الجوي بعد الانفجار. ويمكن أن ينتشر هذا الغبار لعدة مئات من الكيلومترات من موقع الانفجار. في حين أن معظم الجسيمات التي يحملها الغبار النووي تتحلل بسرعة، فإن بعض الجسيمات المُشعة سيكون لها أثر باقٍ يتراوح من ثوانٍ إلى بضعة أشهر. أما بالنسبة لبعض النظائر المُشعة، مثل السترونتيوم 90 والسيزيوم 137، فإن أثرها يدوم طويلا جدا ربما لمدة تصل إلى 5 سنوات بعد الانفجار الأوّلي.
لكنه لا يتوقف عند واحدة فقط
الخلاصة، لا توجد في العالم كله دولة واحدة يمكن أن تتحمَّل آثار ضربة نووية على مدينة واحدة فقط. لكن الأمر كما تعرف لا يتوقف عند ضربة واحدة فقط، مَن سيتلقى أول ضربة لا بد أن يرد بضربة أخرى كي ينتقم ويحسم الصراع لصالحه. لمعرفة شكل تطوُّر هذه الاحتمالية بنى الباحثون من جامعة برينستون الأميركية محاكاة(5) تتطور خلالها حـ.ـرب تقليدية بين روسيا والناتو إلى حرب نووية، عبر إدخال كمٍّ هائل من البيانات المتاحة والاستخباراتية إلى المحاكاة، وبافتراض أن الضربة الأولى ستكون من جانب روسيا.
تبدأ المحاكاة بضربة صاروخ باليستي نووي قادم من قاعدة في مدينة كالينينغراد الروسية الواقعة بين بولندا وليتوانيا على ساحل البلطيق، مستهدفا قاعدة عسكرية توجد على الحدود البولندية الألمانية. ردا على هذه الضربة، تفترض المحاكاة أن الناتو لن يسكت، سيُطلق ضربة واحدة تكتيكية إلى قاعدة عسكرية على الحدود الروسية الغربية، ستنطلق عبر قاذفة قـ.ـنابل مسافرة من قاعدة تقع على الحدود بين ألمانيا وفرنسا.
ما سبق كان فقط ضربات نووية تحذيرية محدودة موجَّهة إلى قواعد عسكرية عادة ما تكون نائية، عدد القتلـ.ـى لن يكون كبيرا، لكن المحاكاة تتوقع أن روسيا خلال ساعات قليلة ستُطلق أول ضربة نووية حقيقية على دول الناتو، تفترض المحاكاة أن ذلك سيتضمَّن قاذفات قنابل تحمل 300 رأس حربي نووي موجَّهة إلى مواقع عسكرية منتشرة في كل أوروبا. الرأس الحربي يُشير إلى المادة المتفجرة (النووية في هذه الحالة) التي يحملها الصاروخ إلى الهدف.
من جانبه، سيرد الناتو بـ 180 رأسا نوويا حربيا إلى مناطق عسكرية حدودية وفي عمق الدولة الروسية، تتوقع المحاكاة أن عدد الوفيات سيصل خلال ثلاث ساعات فقط من هذه المناورة إلى 2.6 مليون شخص، هذا الرقم قليل بالمناسبة، لسبب واحد وهو أن الحـ.ـرب الآن ما زالت تستهدف المواقع العسكرية فقط، في هذه الأثناء ستكون معظم المواقع العسكرية الأوروبية قد تدمَّرت، هنا سيضرب الناتو ضربة كبرى مكوَّنة من 600 رأس حربي نووي قادمة من الغواصات الحاملة للصواريخ النووية في محيط الولايات المتحدة الأميركية.
لأن روسيا تعي أن هذه الضربة ستُدمِّر بنيتها التحتية عسكريا، فإنها ستطلق عددا قريبا من الرؤوس الحربية النووية قبل وصول تلك الضربات، ستنطلق تلك الصواريخ النووية من العربات المتحركة (تلك التي تحمل صواريخ مثل اليارس والتوبول) ومن الغواصات ومن المراكز الثابتة على الأرض باتجاه أوروبا والولايات المتحدة.
لأن الضربات ما زالت عسكرية وتستهدف مراكز عسكرية فإن عدد القتـ.ـلى سيصل إلى 3.4 ملايين شخص في هذه الحالة، لكن الأمر بحسب المحاكاة لن يستمر بهذه الوتيرة. في مرحلة ما، سيكون الرد باستهداف أكثر المدن كثافة في كل دولة مشاركة بالحـ.ـرب.
تفترض المحاكاة أن الأمر سيبدأ باستهداف 30 مدينة هي الأكبر من حيث عدد السكان في كل طرف (روسيا والناتو وأي دولة أخرى ستشارك) بنحو 10-15 رأسا حربيا نوويا لكل مدينة، هنا سيتصاعد عدد القتـ.ـلى إلى 85.3 مليون شخص خلال ثلاثة أرباع ساعة فقط من لحظة الضرب، مع ضِعْف هذا العدد من المصابين، إنه السيناريو القاتل نفسه الذي شرحناه قبل قليل حينما تخيَّلنا لحظة سقوط قنبلة نووية في مدينة مزدحمة.
حـ.ـرب نووية.. وأكثر
لكن الأمر لا يتوقَّف عند هذا الحد، لفهم تلك الفكرة افترض فريق من الباحثين من المركز القومي لدراسة المناخ في كولورادو، الولايات المتحدة الأميركية، أن حربا نووية إقليمية “صغيرة” نشأت بين الجارتين النوويتين: الهند وباكستان، وضع العلماء(6،7) نموذجا لحـ.ـرب تستخدم 100 رأس حربي نووي فقط كلٌّ منها يساوي قنبلة نووية صغيرة (تعادل تلك التي ضربت هيروشيما وناغازاكي).
كشفت النتائج أن ذلك يمكن أن يضر بالمناخ العالمي لمدة عقد كامل على الأقل، مع محو طبقة الأوزون، حيث ستؤدي الطاقة الناتجة منها إلى إطلاق نحو 5.5 ملايين طن من الكربون الأسود عاليا في الغلاف الجوي، ما سيخفض متوسط درجات حرارة سطح الأرض فجأة 1.5 درجة مئوية، وهو أدنى مستوياته منذ أكثر من ألف عام.
تفترض الدراسة أن حـ.ـربا كهذه ستدفع معظم مناطق أميركا الشمالية وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط إلى اختبار فصول شتاء يكون متوسط الحرارة بها من 2.5 إلى 6 درجات مئوية. مع صقيع قاتل في جميع أنحاء العالم سيضرب مواسم نمو المحاصيل الزراعية تماما لمدة 10 إلى 40 يوما سنويا لعدة سنوات.
على الجانب الآخر، فإن الرماد الكربوني في الأعلى سيمتص الحرارة من الشمس مما سيؤدي إلى تسخين طبقة الستراتوسفير، الأمر الذي سيُدمِّر طبقة الأوزون مع الزمن، ويسمح ذلك بوصول كميات أكبر بكثير من الأشعة فوق البنفسجية إلى سطح الأرض بحيث تُشكِّل تهديدا مباشرا لصحة الإنسان والزراعة والنظم البيئية على كلٍّ من اليابسة والماء.
في دراسة أخرى(8) نشرها الاتحاد الجيوفيزيائي الأميركي، تنبَّأت النتائج أنه يمكن للترسانات النووية الحالية التي قد تُستخدم في الحرب بين الولايات المتحدة وروسيا أن تضخ 150 تيراغرام من السخام (سحب من جزيئات الكربون)، من الحرائق التي أشعلتها الانفجارات النووية، في طبقات التروبوسفير العليا والستراتوسفير السفلى، لتُنتج شتاء نوويا، مع درجات حرارة أقل من درجة التجمد في معظم أنحاء نصف الكرة الشمالي خلال فصل الصيف، مع أعلى درجة حرارة متوقَّعة خلال الصيف تساوي 2.5 تحت الصفر مثلا!
سيتسبَّب كل ذلك بالطبع في مجاعة عالمية. في تقرير صدر عام 2013، خلص الباحثون(9) من جمعية “الأطباء الدوليون لمنع الحـ.ـرب النووية” (IPPNW) إلى أن أكثر من مليارَيْ شخص، أي نحو ثلث سكان العالم، سيكونون عُرضة لخطر المجاعة في حالة حدوث تبادل نووي إقليمي بين الهند وباكستان، أو حتى باستخدام نسبة صغيرة من الأسلحة النووية التي تمتلكها أميركا وروسيا، سيلي ذلك ارتفاع في أسعار المواد الغذائية، مما يؤثر على مئات الملايين من الأشخاص الضعفاء في أفقر دول العالم.
ما سبق لم يكن محاولة لإرعابك، فكما قلنا منذ البداية، الاحتمالات تظل ضئيلة، لكن مجرد كونها موجودة مع كل هذا الأثر المتوقَّع، الذي يُهدِّد فعليا بحالة انقراض واسعة تشبه تلك التي حدثت بسبب مُذنَّب ساقط قبل 65 مليون سنة وأنهت وجود الديناصورات، يدفعنا للتساؤل: لِمَ تستمر هذه الاحتمالية من الأساس؟ لِمَ لم نتمكَّن من محوها تماما خلال 70-80 سنة مضت منذ بداية العصر النووي، رغم معرفتنا بالكوارث المتوقَّعة؟ لِمَ علينا في كل حـ.ـرب أن نتخوَّف من وجودها؟ لا نتصوَّر أن مواطنا عاديا، في دولة متقدمة أو متوسطة، يرغب في أن تستمر تلك الاحتمالية قائمة، ولو بقدر يسير.
تعليقات
إرسال تعليق